رحلة الاٹام
شعرت مع سحبه الشرس أنه على وشك اقتلاعه من جذوره. وجد الصغير أوس نفسه عاجزا عن منع ما تلاقيه من تعنيف مخيف نظر مثل البقية في ړعب مراقبا طردها من الجنة الزائفة لأبيه.
ألقاها مهاب ككيس قمامة مقزز خارج بيته قبل أن يصفق الباب في وجهها متجاهلا الطرقات المتلاحقة عليه في شكل چنوني من كلتا قبضتيها ثم الټفت ناظرا إلى الخدم محذرا إياهم باللغة الإنجليزية
لم يعلقوا بشيء سوى بإبداء إيماءة طائعة لأمره الصارم ليقوم بعدها برفع بصره تجاه ابنه وأمره هو الآخر بغير تساهل
روح على أوضتك يا أوس!
نادى الصغير والدته في صوت أقرب للبكاء
ماما أنا عاوزها!
أنذره بغلظة وهو يشير إليه بسبابته
اسمع الكلام وارجع أوضتك وماتخرجش منها!
عصاه في عناد طفولي وظل ينادي باسمها فاضطر لتوجيه أمره للمربية
في الحال استجابت له وهرولت نحو الصغير لتحمله إلى غرفته وسط تذمراته الغاضبة وركلاته القاسېة من قدميه لجسدها لعل وعسى ينجح في الإفلات منها.
لم تتوقف تهاني عن الطرق والصړاخ پبكاء حارق ليفتح لها الباب ويردها إلى عصمته ندمت أشد الندم لتسرعها الأرعن آه لو صمتت وصبرت وكبتت في نفسها ما عرفته لما آلت بها الأمور إلى هذه النهاية المأساوية المحطمة لها امرأة مطلقة مطرودة في الشارع ومحرومة من صغيرها!
يتبع الفصل الحادي والعشرين
الفصل الحادي والعشرون
بعدما هاتفته لتلتقي به بصورة عاجلة في هذا المكان العام وتحديدا ذلك المطعم الراقي جلست متحفزة متلفة الأعصاب لم تخجل ولم تكف عن ذرف الدموع علنا وهي تسرد ل ممدوح بإيجاز ما حدث من مشادة كلامية تطورت إلى تطليقها وطردها بشكل مهين من بيتها ليترتب على ذلك حرمانها من صغيرها الوحيد. ارتفع صوت نواحها ليلفت أكثر الأنظار إليهما وهي تتوسله بحړقة
نظر حوله بتوجس قبل أن يطلب منها بصوت جاد لكنه مهتم
طب اهدي بس الناس بتتفرج علينا.
صړخت تهاني في تحفز وقد بدت مڼهارة الأعصاب تماما
متقوليش أهدى أو أسكت مش فارق معايا حد هنا خالص المهم عندي ابني...
انسالت دموعها أكثر وراحت تتابع بصعوبة وبصوت شبه متقطع
مهاب استحالة يردني تاني أنا ممكن أروح فيها لو اتحرمت من أوس.
أنا استحملت فوق طاقة البشر حاجات كتير عشان ابني يفضل في حضڼي.
بالطبع كان يصل إليه ما يدور بين الزوجين أثناء لقائه برفيقه حينما يتشاركان المجون مع الفتيات العابثات فكان مهاب يتفاخر بأفعاله غير السوية معها وتباريه في تهشيم روحها وبعثرة كرامتها بطرق مختلفة وكأن في ذلك تميزا فريدا لكنه جعله يتمنى في نفسه أن يتمكن من اصطياد هذه الغنيمة ليريها الفارق بينهما في منح طقوس الحب الجامحة. أخفى حقده وغيرته وما يحمله من تفكير سيء وراء هذا القناع الهادئ ليسحب من جيب سترته الأمامي منديله القماشي ثم مده به يده تجاهها وخاطبها في شيء من الثقة
متقلقيش أنا ليا لي طريقتي معاه.
تناولت منه المنديل وكفكفت به عبراتها المنسكبة وهي تسأله
هتعمل إيه
لجوئها إليه وقلة حيلتها تعزز بداخله القليل من القوة فاستغل الفرصة ورد باسما بغرور محسوس في نبرته
كل خير...
ثم ادعى الاهتمام المبالغ فيه بشأنها عندما لاحقها بجملته التالية
المهم قوليلي دلوقتي هتباتي فين عاوز أطمن عليكي.
تنفست بعمق وطردت الهواء من رئتيها دفعة واحدة لتجيبه بعدها
أنا كلمت واحدة زميلتي هبات عندها كام يوم لحد ما أشوف هتسرى الأمور على إيه.
اقترح عليها بخبث
لو ينفع أسيبلك شقتي تباتي فيها وآ...
رفضت مقترحه بشكل قاطع
لأ طبعا إنت بتقول إيه استحالة أوافق بده.
برر لها مقصده بنفس الابتسامة الليئمة التي يخفي خلفها شيطانه الماجن
أنا حابب أشوفك بخير ومش متبهدلة.
وضعت تهاني يدها على قلبها مستشعرة نبضاته الموجوعة وأخذت تدعو في عجز
منك لله يا مهاب هتعمل فيا أكتر من كده إيه
تجرأ ممدوح ووضع راحة كفه على ظهرها ليمسد عليه في رفق قبل أن يكرر طلبه عليها
من فضلك اهدي أنا وعدتك إني هتصرف.
لم تبد منتبهة بقدر كاف لتمانع ما يفعله بل رجته باستجداء أكبر
عشان خاطري
روحله واتكلم معاه.
هز رأسه قائلا بتأكيد
حاضر..
ماتشليش هم ...
ثم سحب ذراعه ليمسك بكأس العصير الموضوع أمامها وأصر عليها وهو يبتسم ابتسامة صغيرة
اشربي بس العصير ده وروقي دمك.
صارت الأيام متشابهة عليه لا جديد فيها ولا مكان متاح له ليعمل فيه يئس من ضيق ذات اليد ومن انعدام مصادر الدخل نضب ما في جيبه ولم يعد لديه ما ينفق به على بيته. سار متخاذل الأقدام بالكاد يحبس دموعه إلى أن بلغ منطقته الشعبية رفع عوض بصره للأعلى فوجد المسجد أمامه التجأ إليه فخلع نعليه وولج إلى الداخل قاصدا الوضوء أولا ليتطهر كان محيط المسجد خاليا لا يتواجد به أحد فمشى ببطء إلى أحد الأركان وافترش الأرضية جالسا على ركبتيه
ورافعا كفيه للسماء. انهمرت عبراته بتتابع وهو يشكو إلى المولى ما أصبحت عليه أحواله
يا رب كل أبواب الدنيا اتقفلت في وشي ومافيش غير بابك اللي دايما مفتوح ليا.
نكس رأسه في خزي قبل أن يدفن وجهه بين راحتيه متابعا شكواه
أنا مبقتش عارف أعمل إيه.
استمرت عيناه تبكيان وقلبه يتألم وهو لا يزال يبوح بما يطبق على صدره
محدش راضي يشغلني وأنا قليل الحيلة مابفهمش في حاجات كتير.
عاد ليرفع وجهه للأعلى مناديا في رجاء وتضرع
يا رب أنا ماليش غيرك وإنت الكريم الوهاب..
استفاض في مناجاته قائلا
انظر لي بعين الرأفة يا رحمن واكرمني بفضلك يا منعم!
ثم صمت عن الكلام وظل يسبح بحمد ربه إلى أن جاء من خلفه شيخ الجامع رجل خمسيني العمر نحيف له لحية رمادية اللون ووجه هادئ الملامح. جلس أمام عوض ووضع يده في حنو على كتفه متسائلا بوجه بشوش وباسم
مالك مهموم ليه
تصنع الابتسام وهو يرد بعد تنهيدة طويلة مليئة بالأسى
الحمدلله يا شيخ عبد الستار أنا راضي بنصيبي وباللي ربنا قسمه ليا.
ألح عليه في تصميم
قول ما تكسفش.
أطلق العنان لما عبأ صدره من هموم وأثقال ولم يقاطعه الشيخ تركه حتى فرغ تماما ليخبره متبسما وكأنه يأتيه بالبشارة الطيبة
طب أنا عندي ليك حل بس مش عارف إن كان هيعجبك ولا لأ.
خفق قلبه وهو يسأله في لهفة ظاهرة على نظراته
خير يا شيخنا
ظل محافظا على بسمته الهادئة وهو يوضح بهدوء
احنا دايما متعودين نعمل ليالي محمدية وإحياء للذكر في أماكن كتير وبنحتاج حد يساعدنا في نقل الحاجة وتوزيع الطلبات.
تحير فيما يريده منه وقرأ الشيخ هذه الحيرة في عينيه لذا سأله مباشرة
فإيه رأيك تبقى معانا
وكأن دعوته الصادقة قد استجيبت من فوق سبع سماوات فهتف متسائلا في غير تصديق بعدما انفرجت أساريره
إنت بتتكلم جد يا شيخنا
أكد عليه بإيماءة إيجابية من رأسه
طبعا هي شغلانة بسيطة بس باب رزق يجيلك منه أي حاجة.
تهلل على الأخير وبدا مرحبا للغاية بهذه الوظيفة المتواضعة عندما قال
طالما بالحلال فأنا راضي.
ثم رفع بصره وكفيه للسماء شاكرا رب العزة على فيض نعمه
اللهم لك الحمد والشكر يا رب
ياما إنت كريم يا رب.
استحسن الشيخ ما يظهره من رضا وربت على كتفه في محبة فأسرع عوض بإمساك يده يريد تقبيلها وهو يقول في امتنان
إيدك يا شيخنا.
سحبها في التو معاتبا إياه بنظرة صغيرة
استغفر الله احنا كلنا عبيد إحسانه جل وعلا.
وكأن روحه الملتاعة والمعذبة قد وجدت راحتها أخيرا بعد أيام من الشقاء والحزن لم يتوقف عوض عن ترديد عبارات الشكر والتضرع للمولى حتى خرج من المسجد يريد أن يطلع زوجته على الأنباء السارة.
دون ميعاد مسبق التقى به في غرفة مكتبه بمسكنه ليشاركه تناول المشروب ويدعي كذلك تباهيه بما اعتبره إنجازا جديدا في تطور علاقته ب تهاني. ملأ ممدوح كأسه بالمزيد من هذا النوع الفاخر من الخمر ووضع مكعبات الثلج فيه ليحمله مع الآخر الذي أعده لرفيقه ممتدحا تصرفه وهو يقترب من الأريكة ليجاوره في جلسته المسترخية
إنت جبار يا مهاب حقيقي ماشوفتش في حياتي حد زيك.
وضع الأخير ساقه فوق الأخرى بتفاخر وعقب بإيجاز وهذه النظرة المغترة تلمع في حدقتيه
ولسه!
تجرع قدرا كبيرا من الخمر بلعه دفعة واحدة وواصل الكلام
واحدة غيرها كان زمانها خلصت على نفسها عشان تترحم منك ومن اللي بتعمله فيها.
ضحك في زهو فأكمل ممدوح على نفس النهج المادح
دايما بتبهرني بأسلوبك.
أشار له مهاب بكأسه الذي يقبض عليه بيده وقال
اتعلم من الأستاذ.
كان ممدوح على وشك النطق بشيء لكن الطرقة الصغيرة على الباب جعلته يتوقف وينظر
إلى حيث أطلت المربية الأجنبية أومأت برأسها في خفة وأبدت اعتذارها اللبق قائلة
عذرا للمقاطعة سيدي...
سمح لها مهاب بالكلام فأوضحت بقليل من الضيق
لكن أوس يرفض تناول طعامه ولا يكف عن مناداة والدته.
الټفت ممدوح برأسه لينظر إلى رفيقه متفرسا بتدقيق في ملامحه رأى كيف غامت تعبيراته وكساها الوجوم أخفض مهاب كأسه الفارغ وأمرها
استدعيه إلى هنا.
ردت في طاعة قبل أن تغادر مسرعة لتحضره
كما تأمر سيدي.
في نوع من الفضول تساءل ممدوح بخبث
هتعمل معاه إيه
قبل أن يفكر في إجابته اقترح عليه دون تفكير
أنا من رأيي تألف أي حكاية تضحك بيه عليها وتريح دماغك ما إنت مش هتخلص من زن العيال.
لم يعلق عليه مهاب بكلمة فاستمر يضيف بنزق
أو الأحسن إنك تبعته مدرسة داخلي.
نظر له رفيقه بجمود قبل أن يحذره بصوت غير متساهل
موضوعه مايخصكش.
استشعر تحفزه من صوته فتراجع ضاحكا ضحكة مكشوفة ليعلل بعدها بسخافة
أنا بفكر معاك بصوت عالي.
تحول بناظريه تجاه الباب عندما اقتحم الصغير أوس الغرفة ركضا توقف أمام أبيه متسائلا دون تمهيد
فين ماما
اعتدل مهاب في جلسته المسترخية وأنزل ساقه لينظر إليه من مستواه قبل أن يضع قبضتيه على كتفيه مجيبا إياه
مسافرة.
في عناد طفولي رفض تصديق كذبته هاتفا بصوت منفعل
لأ أنا عاوزها خليها ترجع.
عامله بهدوء تام وقال
بعدين يا أوس أنا عاوزك تسمع الكلام وتاكل.
رفض الإصغاء إليه كليا أو حتى الاقتناع بما فاه به وركل بقدمه
الأرض في عصبية مواصلا الصړاخ
لأ إنت مشيتها من هنا أنا عاوزها.
ضجر ممدوح مما اعتبره تدللا لزجا وصاح فيه بصوت أجش
كفاية صداع يا ابني هي مش راجعة تاني حط ده في دماغك.
حينئذ تحولت نظرات أوس إليه وحدجه بكراهية صريحة قبل أن يتدخل والده لينهره عن التدخل فيما لا يعنيه وخاصة شأنه مع ابنه بقوله الصارم
ممدوح! ماتدخلش!
تلبك من إحراجه بهذا الشكل السافر وأمام من ابنه الذي لا